نجمةٌ خابية في أفق مُشِعّ
بقلم- نايف مهدي
ها قد حل الليل وبين جنبيه جراب العطايا -ولم أعرف بذلك إلا من وسمه على صفحات النوافذ، فقد صار الاختلاط بالبشر يُشكل عبئًا عليّ- وانقطعتِ الأحياء من تسكع المارة، وأمست الشوارع مسرحًا للريح وغبش الأنوار الصفراء المتوامضة بكسل، بينما الذهن يشط في آفاق بعيدة، والخطوات تعاود الدوران وسط حجرتي الضيقة، وحيدًا أغزل الأفكار فتُدمي يديّ، فمنذ فترة ليست بالقريبة استحالت شرايين الفكر إلى أسلاك واخزة، وعلي أيٍّ منا أن يشاغل الآخر، وإلّا لالتفت على حنجرتي وصادقت على وحشتي التي أتهرب منها جهد ما استطعت.
آهٍ يا غائبتي الكبرى، ماذا عساي أن أفعل، والليل الذي كنا نتدثر في ردائه ناعمين، قد تحول إلى نصل يزحف على عنقي كلما أوى الكل إلى فراشه! أأدافعه بالكتابة كي أنخر أركان هذا الحمل الباهظ وأهتدي إلي شيء من راحتي كما تزعمين، أو كما كنتِ تزعمين! وكيف السبيل إلى ذلك والقلم حرون متمانع في يدي، وماذا لو تهادنا وذرفت أول قطراته حروف اسمك بجسارة، أي أرضٍ تقلني حينها، وأي سماء استظل بها؟!، ويحي من عزاءاتي الخائبة، وويلي إذا شفّت ملامحي عن الضعف الذي يستوطنني وقرأتني عيون الملأ في كل مكان.
إن الغياب لعنة تجثم على صفاء النفس فتشعل النار في أطرافه، وتزلزل كل ساكن في حشاشة الروح.
نأيتِ ولم يبقَ لي من بقاياك سوى أطياف عذبة أضمّد بها خيالي الجريح وأعاود التفكير في ميدان بسماتك الهادئ، حتى إنني كلما طُرق بابي تأنقت وقصصت شعرات الشيب من رأسي ظنًا مني أنك من تكونين على بعد خطوات مني، وبقلب أطاره الفرح ألقي ما بيدي وأخب متلهفًا للوصول إليك، وها أنتِ تبرزين بنضارة الماضي وكأن عقدًا من السنين لم يسلب من روائك شيئًا، تبرزين بخصلات شعرك الكستنائي التي تلامس كتفيك بالتواءاتها اللامعة كأنها أهلة سحرية، بفستانك المزهّر ذي الشرائط البيضاء المخرمة البديعة، وحقيبتك التي بلون الياسمين قد تدلت بين يديك، يا لفرحة الكون التي خُصصت بها!.
أمسك وجهك الوضاء بين يدي، أزيح دمعاتك العاتبة وكذلك تفعلين لي ورذاذ المطر يتساقط حولنا في فتور ناعس، والريح تجري مضمخة بشدو الطيور المتراصة على عتبات النوافذ، أستنشقك، أبدد أوجاعي بمرآك، أداعب القلادة المنسدلة على نحرك العاجي، ثم أرتمي في حضنك مستدفئًا عن زمهريري المميت، أنشج بحرقة على كتفك بينما انهمارات شعرك تُسّكن اختلاجاتي، تهمسين أن اشتقت إليّ وأنك أخيرًا قد أتيت، يهزني فرط ابتهاجي كورقة تهدر من تحتها غضبة سيل متدافع، أرفع رأسي متمهلًا، فأصعق بأن طيفك يتشظى إلى بلورات سرابية ويذوب! أجتر طعم المرارة والرعدة تشل أطرافي، يسقط رأسي مثقلًا، فإذا بي أحتضن الفراغ ويداي تشتعلان جمرًا، أغمض عيني كمدًا، فتفزعني شهقة الكابوس اللطيف من مجثمي.
وبهذا الزاد اليسير أخرج مجابهًا زيف العالم ولغوه المقيتين، وانطلق أسابق الساعات في دورانها إلى أن تُدحر الشمس في قرارة الأفق، فلا أجد- حينذاك- بدًا من أن أذرع فلوات حجرتي بانتظار مجيء ذاك الحلم الذي يؤرقني بمقدار ما يُمنيني.