قراءةٌ نقدية في قصيدة : “عرزالٌ لنومك العالي” للشاعرة السورية ليندا إبراهيم
طرديةٌ عشقٍ ... وحبيبٌ إشكاليٌّ ..!
بقلم د. كاميليا عبد الفتاح:
• الصراعُ ليس قوام الوجود الإنساني وحده ، بل هو مبدأ الخلق الإبداعي ؛ فالإبداعُ يستمدُ مقومات وجوده ممّا نخوض من مكابدة التوتر بين المواقف الحياتية – و الشعورية والفكرية – الضدية . وفي الوقت الذي تقتاتُ فيه التجربة الإبداعية – وتستمدُ مقومات وجودها – من كل ما يستلب منّا الحياة ، وتقتاتُ من وقفتنا على أعرافنا بين الحياة والموت ، تُعيدنا هذه التجربة – عند مخاضها – إلى الحياة مرة أخرى من خلال ما تحققه فينا من توازن بين المُتصَارِع ، وتوفيقٍ بين المُختلفِ ، وتطهّرٍ من المُوجِع الخفيّ والظاهرِ ، ومواجهةٍ – ومُصالحة مع – كلِّ ما اختبأنا منه وأحدثنا معه قطيعةً كبرى : الوقت ، الأغيار ، الذكرى .
•
طاردتني أصداءُ هذه الأفكار ، وأنا أتأمّلُ قصيدة الشاعرة السورية – العربيّة – المُبدعة ، الأستاذة ليندا إبراهيم : ” عِرزَالٌ لنومِك العالي ” ، التي استوقفتني بدءًا من عنوانها ، الذي يُمثل عتبة حقيقيّة للقصيدة – إذ ليس كلُّ عنوانٍ عتبة – فالعنوانُ لا يكونُ عتبةً – تستوجبُ التحليل النقدي – إلّا حين يكونُ نصًا – في ذاته – يختزنُ دلالته التي لا تتعارض مع دلالة النص الأساس – المتن – ولا تكونُ مجرد تكرار لها ، أو حين يكونُ جزءا من الدلالة الكليّة للنص ، أو مرحلةً من مراحل التجربة ، في حال أن يكون النص سرديا ، أو مرتكزا على السردي .
• العِرزالُ – بكسر العين – في شرح صاحب القاموس المحيط ، له عدةُ دلالاتٍ ، تبدو – للوهلة الأولى – بعيدةً كل البعد عن المناح الدلالي للقصيدة ، من بينها : عِرّيسة الأسد ، وما يجمعه في مأواه لأشباله ممّا يُمهده كالعشّ ، وموضعٌ يتخذه الناطور في أطراف النخل خوفا من الأسد ، والبقية من اللحم ، وبيتٌ صغيرٌ يُتخذُ للمَلك إذا قاتل ، وبيتٌ لمُجتبئ الكَمأة ، والمتاع القليل ، وغصن الشجر ، وغير ذلك .
والعِرزالُ في قاموس الأسماء والمعاني: كوخ يُتخذ من أغصان الشجر في الحقول ، أو فوق الأشجار .
وعند قراءة القصيدة التي تتوجهُ فيها الذاتُ الشاعرة إلى الحبيب بخطابها ، نجدُ اتساقا مُدهشا بين – كثيرٍ من -هذه المعاني التي تحملها مفردة ” عرزال ” و السياق الدلالي للنص .
• القصيدة :
“عرزال لنومك العالي”
… …
الوقتُ فَرَاسةُ الرُّوح في قصرِ الضَّجَر
الوقتُ ولعُ القلبِ بأشجار غيابِك
الوقت مؤثِّثاً قطارَ العمرِ بفقدٍ رجيم
الوقتُ أنت،
ولا وقت إلا بك
أنت..
……
صوتك أوَّلَ الفجر، أوَّلُ الكلام ،
قوتُ روحي لترقُدَ قربَ نومِكَ
بعد سَهَرٍ مرير
…
الليلُ جُبُّ أسرار الرَّغاب
حيثُ غفوتَ هناكَ على صدرها
تشتمُّ رائحةَ جسدِها
تأوي إليها،
امرأتك،
امرأة الزَّمان:
“شام”
…
أفنيتُ عمراً أقلِّمُ شجرَ انتظاري
أستنبتُ أنوثتي
أستحلبُ ضرعَ بالك في الحُبّ
ما بين “صفا” أشواقي،
و”مروة” لهفتي
هناك،
حيث نبتت غابات السراب
تظلل نومك العالي
…”
نحنُ – الناقد والمُتلقّي – أمام أنثى عاشقة ، تمارس : الولع ، فقدَ العمر ، الاقتياتَ من صوت الحبيب ، السهر المرير ، تقليمَ شجر الانتظار ، استنباتَ أنوثَتها ، استحلابَ ضرع بالِ الحبيب في الحبّ . العاشقةُ تُمارسُ هنا أفعالًا استلابية ، تنالُ منها – لا تُضيفُ إليها ولا تمنحها – أفعالٌ تشتركُ في تكريس الفقد والافتقاد والانتظار ، و- من ثمّ – تدور في فلك التفاني المُفضي إلى الإفناء .
• في مقابل هذا ، نحنُ أمام محبوبٍ لا يقابل هذا العشق بعشقٍ مماثلٍ ، بل نحنُ أمام عاشقٍ يمارس : الغياب ، الغفو ، و النوم العالي ، الذي يبدو لنا – للوهلة الأولى – تعاليًا ، وكأنه حلمٌ مُستعصٍ على التحقق ، خاصة وأنه مشغولٌ – و شَغِفٌ – بأنثى أخرى تنافسُ عاشقته ، شغفٌ بامرأة الزمان – كما أشارت القصيدة – وهي الشَّام ، وهي الأنثى التي استلبت عشقه ؛ فهو يغفو على صدرها ، يشمّ رائحة جسدها ، يأوِي إليها ، وهي – كما أشارت الشاعرة – ” امرأتُه ” . وهنا نستعيد – مرة أخرى – معاني الــ ” عِرزال ” – التي أشار إليها الفيروز آبادي – أعني : البيتَ الصغير الذي يُتخذُ للمَلِك إذا قاتل ، وبيتَ مُجتبئ الكَمأة ، ونلاحظُ اتساق هذين المعنيين مع وضعية الحبيب في هذه القصيدة ؛ حيثُ يستوجبُ شغفُه بالشام / الوطن أن يُهدى إليه العِرزال بوصفه بيت المُقاتل ، وبوصفه دالًا على زوجة الأسد التي هي العاشقة التي يتبددُ عمرُها في انتظاره وهو مُستغرقٌ في عشقِ الشام .
وهنا ندرك دلالةً أخرى لل” علوّ ” الذي وصفت به الشاعرة نوم الحبيب – في قولها ” نومك العالي ” -حيثُ يبدو العلو ُهنا مزيجا من التعالي فوق ما تقدمه له من عشقٍ ؛ لانشغاله بحب أكبر -” الشام ” – كما يبدو العلو مسافةً شاهقةً مُستمدةً من مكانة الشام / أنثاه الأثيرة التي يغفو على صدرها ، حيثُ الإغفاءةُ هنا هي الولعُ بالوطن والشغفُ بالأرض والمسئولية ، وكل هذا يُمثّل علوًّا و ” نوما عاليا ” .
• إنّ الوحدة الشعورية والفكرية التي تُشكّلُ لُحمة الرؤية هي – وحدها – المايسترو الذي يقودُ عناصرَ التشكيل الجمالي – في النص الإبداعي – إلى عزفٍ هارموني مُوحّد ، يمضي صوب تحقيق دلالة الرؤية ، بما يتلقَّاهُ الناقدُ بشغفِ منْ عثر على مفتاح حجرة الكنز في حكايا ألف ليلة وليلة ؛ إذ أنّ كل اتساقٍ يمضي بالناقد صوب الكشف الذي يمضي به – بدوره – إلى الوصول إلى رؤيته النقدية ، حيثُ تكونُ سدرةُ منتهاه التي يتحققُ فيها خلاصُه الخاص ، وهو خلاصٌ مُركّب مُعقد ؛ لأنه مزيجٌ من التطهّر الذي يتحقق في عملية التلقّي ، واللذة العقلية والروحية التي يصلُ إليها المُستكشف ، والناقدُ هنا مُستكشفٌ ، لكنه لا يُبشرنا بأرضٍ جديدة ، بل بحروفٍ جديدة ، ورؤى للخلاص والتحليق نقاومُ بها شقاءنا وعجزنا الإنساني .
• وممّا يتعلقُ بالوحدة والهارمونية الجمالية في هذه القصيدة أننا نجدُ تمرئيا مُدهشا لحرف ال ” عين ” في كثيرٍ من مفرداتها ، وأقول تمرئيًا ، لأنّ حرف العين هو الأساس في العنوان / العتبة : عِرزال ..لنومك .. العالي .
يترددُ حرفُ العين في ” لوعة ” العاشقة ، وفي قطار ” عمرها ” المهدد بفقد رجيم – كما في القصيدة – ، وفي إفناء ” عمرها ” . حين نتأملُ الطبيعةَ الصوتية لحرف العين ، نلاحظُ اتساقها مع هذه اللوعة وهذا الفقد ؛ فالعين صوتٌ حلقيٌ مجهور ( رخوي مُرقّق ) ..
إنّ هذا المشترك الصوتي بين المفردات التي تتضمنُ حرف العين ، تبرزُ مدى الهوة الشعورية بين العاشقة والحبيب ، أو بين ما يتصل بكل منهما : ” العِرزال ، والنوم العالي ” من جهة ، وبين ” اللوعة ، العمر ” من جهة أخرى .
• وقد أبرزَ أسلوب التكرار مدى قوة الزمن في تربصه بهذا العشق ، وهذا العمر ؛ فقد تكررت مفردة ” الوقت ” خمس مرات في القصيدة ، فضلا عن الإشارة إلى الوقت بمفردات أخرى ، منها : الفجر ، الليل ، السهر ، العمر .
إنّ الحروف التي تتشكلُ منها مفردةُ ” عِرزال ” لها شيوعها وترددُها الخاص في مفردات القصيدة – وهو ترددٌ يُفضي بنا إلى دلالة أخرى لها أهميتها – هذه الحروف : العين : وقد ترددت – كما أشرتُ – في : العمر ، الولع ، وحرف الرّاء الذي ترددُ في : السهر المرير ، وحرف الزاي ، ويوجدُ في : الزمان ، وحرف الّلام ، وتردد في الفعل ” أُقلّم ” ، وفي ” اللهفة ” .. ماالذي تنتجهُ هذه الملاحظة ؟ تنتجُ افتراضًا نقديا أنّ الـ ” عِرزال ” المُهدى من الذات الشاعرة – العاشقة – لحبيبها ، هو مجموعُ دلالات المفردات السابقة التي ترددت فيها حروف كلمة ” عِرزال ” ، أي أنّ العِرزال المُهدى إليه من عاشقته هو مجموعُ : ولعها ولهفتها وسهرها المرير ، وعمرها وزمنها ..
الذاتُ الأنثوية – في هذا الطرح – متعلقةٌ بحبيبٍ إشكاليٌ ، يعشقُ الوطن وهو المعشوق ؛ لذا تُهدي إليه ” عرزالا ” بوصفه بيتًا يواصلُ به قتاله في سبيل امرأته ” الشام ” – وهذا البيت أحدُ معاني العرزال في القاموس – وبوصفه مزيجا من صبر العاشقة وشغفها ، وانتمائها إليه امرأةً لأسد مُتعالٍ ، وعاشقٍ ينامُ – رمزيا – في كوخٍ مرتفعٍ فوق أغصان شجر ، هذه الأغصان التي أفنت عمرها وهي تُقلّمها .