امرأة لا تطل من النافذة
قصة:سهير شكري
********
اليوم مطير بغزارة
ستائر أصابها الاختناق والملل فبدت كعجوز أصابها الوهن والارهاق من طول وقوفها مصلوبة خلف نافذتي المغلقة ،مضي عليها زمن وهي تشتاق لنسمة هواء ..فأنا لم افتح نافذتي منذ سنوات ولا أطل منها.
اليوم فتحت نافذتي وأنا مختبئة خلفها لأشم رائحة المطر كما تعودت سابقا.
اجتاح الهواء.. حجرتي ترفرف ستائرها كعصفور سجين فرح بالحرية بعد سجنه الطويل ، الصقيع سري في جسدي وارتعدت أطرافي والتهمي الخوف وبدلا من أن أشم رائحة المطر عصفت بي رائحة عطر مثير فتحركت ذاكرتي وحلت علي ذكرى بعينها كضيفة ثقيلة قاسية
طالما رفضت استقبالها محاولة أن أضعها في صندوق النسيان وطريق اللامبالاة . امتطيت صهوة جواد المكابرة .فطوقت نوافذي بسياج من حديد خوفا من شخص ما يقفز منها
وإلي الآن أخشي أن يمسك أحدهم القضبان ويضرب ببصره إلي داخل بيتي ويكتشف اني وحيدة ليس معي إلا ذكريات.
أو أن يقذف احد الصبية في الشارع بالحجارة والحصي.فلطالما سمعتهم وهم يتصايحون مدعين أن بيتي لا يسكنه أحد من الإنس بل يسكنه الجن والعفاريت فأغلقتها ولم أعد أطل منها.فأنا أسكن في الطابق الأول لكنه مرتفع عن الشارع .
مازالت رائحة العطر تغزو أنفي تأسرني وتشدني إلي تتبع واقتفاء أثره حتي رأيته بعد أن تعدي مسكني ببضع خطوات متخطيا أكوام الرمل والحجاره أمام النيابة الجديدة الشاهقة التي مازالت تحت التشطيب والتي لا اعرف متي أقيمت ،ومع اني كنت أنظر إليه من الخلف إلا أنه في اللحظة التي نابعته فيها استدار فجأة وصوب تجاهي نظرة طويلة ثاقبة ثم انصرف مسرعا وتركني في حيرة .
متي عاد ؟وكيف ولماذا لم يأت عندي ؟
وهل هو مقيم في نفس الشارع ؟
ام جاء لزيارة أحد أصدقائه ؟
ومن هم أصدقاءه وأين يسكنون ؟
لم يخطر ببالي أن أراه ثانية تري إلي أين يتوجه في ذلك الوقت المتأخر والجو المطير ؟
راقبته بكل شغف واهتمام يسير منتصب القامة مرفوع الراس في شموخ فهو شاب يظن من لا يعرفه أنه طاعن في السن بسبب شعره الأبيض وملامحه التي كثرت بها خطوط الألم والمعاناة .
يرتدي بنطالا أزرق وقميصا ابيض وبلوفر رمادي وحول رقبته كوفية تتحلي باللونين الأبيض والأسود
عبر الشارع سريعا . . .وقف علي محطة الترام أمامي، الضوء خافت ألقي بظلاله علي وجهه وانا مازلت أتابعه بكل جوانحي خشية أن يتوه عن ناظري وسط الزحام الناس تتكدس تحت المظلة اتقاءا للمطر لكنه مازال تحت ناظري . وقفت قلقة ..هل ساتركه يركب الترام ويغيب عني مرة اخري، وربما للابد؟.
هل الحق به وأسأله عن سبب غيابه؟
وإذا لحقت به وأكتشفت أنه ليس هو وأنه مجرد شبيه ماذا سيكون الحال؟
ربما يظنني مدعية أو امرأة خرجت لتتصيد رجلا
وصل الترام فضاع مني وجهه .. . .حزنت .واسفت . .
بعد أن استأنف الترام رحيله وغادر المحطة شاهدته عائدا وبصحبته امرأة بيضاء طويلة ممشوقة شعرها بني مسترسل ترتدي معطفا قصيرا من الصوف الأحمر و حذاءاسود طويل يصل الي أسفل الركبة وتعلق في ذراعها حقيبة سوداء
يلف ذراعه حول وسطها وهي تلقي برأسها فوق صدره مشغول ومفتون بها لذلك لم يلق بألا لي ولم ينظر تجاهي
شعرت بالغيرة وتسلل إلي شعور بالحزن الدفين لا ادري كنهه. لذا ظللت واقفة خلف النافذة متتبعة خطواتهما حتي دخلاإ لي البناية الجديدة .
رأيت الإضاءة تنبعث من الطابق الأول فعرفت اين يفيم.
أصابتني الجبره . مكثت بضع دقائق واجمة . . ساهمة خلف النافذة ثم اقغلتها عائدة إلي غرفة نومي
مازال عطره عالقا بانغي استنشقه بنشوة وسعادة. . لكن هذه المراة التي عاد بصحبتها تقلقني
من ياتري هذه المرأة التي يوليها هذا الاهتمام؟
هل ساتركه لها هكذا طائعة مختارة ؟
لقد كان كل شيء في حياتي لسنوات طويلة
لماذا رحل عني ولماذا عاد ؟
ومن أنا بالنسبة له الآن بعد أن انتظرته طيلة هذه السنوات؟
تنفست دموعي وأمتلكتني الغيرة وانا احدث نفسي :لماذا كل هذه الحيرة ؟
المسافة بيني وبينه قصيرة فلماذا لا اعبر الشارع وأطرف بابه واواجهه وأسأله بكل جرأة ماذا حدث ؟
ولماذا رحل عني باكرا؟
ومن هذه المرأة التي تلقي برأسها علي صدره؟
سأبكي بين ذراعيه واشكو له عذابي في بعاده وكيف تاهت روحي وبهتت ضحكتي واختلطت الفصول ورحلت الألوان. فهو وحده القادر علي تلوين حياتي وإدخال البهجة إلي جوانحي
مازلت اقتفي أثر عطره حتي وجدت نفسي انزل درجات السلم الحلزوني المؤدي إلي البدروم وقد غطاه التراب تماما . . وسرت حتي وصلت إلي القاعة الكبيرة التي غمرها التراب
وجدت اشياء مكدسة ومهمة يعلوها التراب . علب ألوان . فرش متعددة الأرقام ومكتبة كبيرة بها كتب عن الفن التشكيلي وبعض الروايات لكتاب عرب وأجانب ودواوين لمحمود درويش وصلاح جاهين وجرادل وسكاكين
وانا أفتش عن رواية “أكلة الذئب” للكاتب ڜاكر النابلسي التي تركها في المرسم أثناء رسمه إحدي شخصياته الشهيرة والرواية تحكي قصة رسام كاريكاتير يقال عنه (قاضي تحقيق عينه الفقراء والمشردون نيابة عنهم ) وإذ بي اسمع استغاثة وآهنة هرعت اتقافز علي السلم وأنا جزعةوجدته ملقى علي الأرض تفحصته لكني للأسف اكتشفت أنه مات
صرخت كالمجنونة وهرعت انظر من النافذة يمينا ويسارا
تركته في كامل نشاطه وصحته فماذا حدث ؟
اتجهت كل شكوكي الي النافذة المفتوحة . لابد أن أحدهم قفز منها وقتله غدرا وانتقاما فقدسبق وهدده لرسومه الساخرة اللاذعة التي تفضح فسادهم ومتاجرتهم بقضية الوطن لكن مما أثار شوكي أن القاضي حفظ التحقيق ضد مجهول فالقاصي يتبعهم فهل يعقل ماحدث ؟في خلال دقائق تركته لاحضر الرواية فاعود أجده مقتولا ..؟ ستتوجه للنائب العام وابلغه شكوكي واطلب فتح التحقيق من جديد وسافتح نوافذي واطرد مخاوفي فتحت دولابي لارتدي ملابسي
واخرجت الحذاء الاسود الطويل ومعطفي الأحمر القصير