“مكبث”.. رائعة شكسبير الخالدة
بقلم_ زياد النجار:
منذ فترةٍ قصيرة قرأت مسرحية شكسبير الأطول له والأروع (في رأيي) “هملت”، وأعجبتني كثيراً، سواء في أحداثها، وحبكتها، والمحادثات فيما بين الشخصيات، قررت بالصدفة أن أشتري “مَكبث”، والتي كنت كل ما أعرفه عنها أنها من أشهر مسرحيات العظيم الإنساني، ولما قرأتها أدركت فعلاً أنها تستحق هذا اللقب بجدارة فائقة.
يعود “مَكبث” ابن الملك “دنكان” مع أخيه “بانكو” من أحد الحروب ضد الجيران، التي نشبت بسبب طبيعة التنافس التي كانت سائدة بين الممالك في ذلك الوقت، وفي طريقهم يتقابلون مع ثلاث عرافات، تتنبأ لهم بستقبلهم كالأتي:
-“مَكبث” سيصير ملكً علي اسكتلنده.
-“بانكو” سيكون أعلي قدراً من “مَكبث”، وسيُنجب الكلوك، ولكنه لن يكون ملكً.
ثم يعودا إلي موطنهم، ويستقبلهم الملك ببذخ وترحاب كبير، ولما يُخبر “مَكبث” زوجته التي يًحبها بشأن العرافات الثلاث، تبدأ المؤامرة التي أُسها الزوجة؛ حيث تبدأ بملأ رأس “مَكبث” وإقناعه بالخلاص من الملك، ليخلو له الجو والعرش، ويوافق “مَكبث” علي اقتراح زوجته الشيطانة؛ متلاعبةً فيه بلفظها البليغ:
((إن عقيدتي بعد الآن في حبك لا تزيد شيئاً عما اعتقدته في مضائك.
أتخشي أن تسمو أفعالك إلي رتبة أمالك؟!، أتريد أن تملك ما تعده زينة الحياة الدنيا، من غير أن ترقي في خاصة نفسك عن مكانة الجبنان، الذي يدفعه الأمل، ويمنعه الوجل؟!، كذلك السنِّور الذي قيل إنه يحب الماء ويكره البلل!!)).
وبالفعل زهقت روح المللك الطيب؛ بطعنة من خنجر “مَكبث” في قصره، يالله من مضيفً خائناً!!.
ليس الموضوع مجرد طعنةً ببساطة، بل كانت الزوجة الشيطانة وتابعها مُدبرين خطةً لا يخُرها الماء؛ فقد اسكرا حارسي الملكن ولطخا ثيابهما بدم الملك الشهيد، وكأن لا يد لهمَ في الموضوع!.
لم يتحمل بعدها ابني الملك المرحوم “مالكولم” و”دونالبان” أن يعيشا في هذا الموطن الذي تُحاك فيه المؤامرات، ويثقتل فيه القتيل، ويبرأ قاتله من دمه، ففرا خارج هذه البلاد التي اعتبروها ملعونة!!.
وشك فيهما العامة بعد حادثة الفرار هذه، ولكن بقي عائقٌ واحد في سبيل خلو العرش والجو لـ”مَكبث” وحرمه، ألا وهو أخيه “بانكو” الذي تنبأت له العرافات الملعونات أنه أبا الملوك، فكيف يستكين لـ”مَكبث” الذي قتل أبيه؛ لأجل المُلك، وسيُقاسمه فيه أبناء أخيه بعد حين؟؟!!.
فتبدأ الزوجة، التي جسدت إبليس البشري في تدبير خطةٍ لقتل “بانكو” وابنه بلا ادني رحمةً ولا إنسانية، وكان يُردد:
((فاجأ الساحرات بأسئلته حين بشرنّي بالمُلك، وأمرهن بالإجابة، فعندئذ بشرنّه بمصير المُلك إلي سلسلة طويلة من أعقابه، وهكذا جعل التاج الذي علي رأسي عقيماً، والصولجان الذي بيدي هشيماً.
ستنتقل الصولة غصباً من مقبضي، ولن يخلفني ولدً من صلبي.
فلئن صح ذلك فلأجل أبناء “بانكو” أكون قد دُنست نفسي!، ولأجلهم قتلت “دنكان” الرحيم؟!، ولأجلهم خاصةً سممت بالحقد كأس راحتي، أجل!، ولأجل أن اجعل أولئك ملوكاً الآن قد دفعت نفسي الخالدة إلي عدو الله… أأبناء “بانكو” يكونون ملوكاً؟!!)).
فأقام عاشق السلطان هذا مأدبةً كبيرة، دعا إليها جميع أشراف العامة ونبلائها، و”بانكو” بالطبع، ودبر له من يُزهق روحه، وتم بالفعل قتله، وارتقي الأخ الشريف بيد أخيه الخائن الذي يُكاد يُنافس “راسبوتين”.
ولكن أتت الرياح بما لا تشتهي السفن، ولم يبرأ القاتل من دم أخيه بسهولة!، حيث رأي “مَكبث” طيف اخيه بين الحاضرين، وبدأت الألاعيب النفسية، كما تُجسد الرواية، وأخذ “مَكبث” يتفوه بعبارات كادت أن تكشف جرمه الفظيع.
وصار “مَكبث” بعد هذه الحادثة عرضةً لألاعيب الأشباح والأطياف ليل نهار، في النوم والسهر، فخرج يستنجد بالساحرات؛ آملاً أن يزيلوا قلقه، ويُفرجوا همه، ويستخبرهم ما تطويه له صفحات الأيام، فأخبرته الأرواح أنه لن يكون في استطاعة ابن أُمه إيذائه!!.
واطمئن وحسب أن الدنيا استكانت له، وهدأ الجو، وخلي العرش، ولكن في معركته مع خصومه تحركت الأشجار التي اتخذها جُند العدو مخبأً له بأغصانها، ولكن “مَكبث” آل به الأمر موضوع الرأس علي نصل سيف “مكدف”!!.
ولكن هل بهذا يمون قد أُثبت بُطلان نبوءة الأرواح، التي أخبرت مكبث أنه لا يقدر آدمي ولدته أمه علي إيذائه؟!، استعد للمفاجأة!: “مكدف” العدو لم تلده أُنثي كما تلد النساء الرجال، فقد انتُزع من بطن امه قبل الأشهر التي من المفترض أن تُحمل فيها النساء!!!.
دعنا نتفق أن الأحداث الدرامية بذاتها هي أكبر دافع لنجاح المسرحية، بعد شاعريته.
نجح المؤلف العبقري بجدارة في تمثيل نفس المجرم، وما يشعر به، ولكن في رأيي استطاع “دوستوفسكي” خبير النفس البشرية في تجسيد هذا الشعور بشكل أعمق في رائعته “الجريمة والعقاب”، ولكن لا يجرؤ جريئ علي اثبات مدي إنسانية هذه المسرحية، وروعتها.
الشاعرية في المحادثات بين الشخوص ساهمت بشكل كبير في درامية وروعة هذا العمل الأدبي، حيث الشاعرية الوجدانية، التي تصلح كاقتباسات رائعة، لا يمل القارئ من العودة إليها!.
ولكن للأسف تم استخدامها في غير مواضعها، مثلاً في مشهد قتل “دنكان” وأحداثه المشوقة، أفسدتها هذه الشعرية في التحدث، وطمست حبكة هذا المشهد بالذات، وإثارته، وكذلك الأمر بالنسبة لمشهد النهاية في مبارزة “مكدف” مع “مَكبث”.
كل من قرأ المسرحية سواء كانت مترجمة أو بلغتها الأم، يعلم جيداً مدي صعوبة الالفاظ المستخدمة فيها، مما يعني انها من الصعب أن تُلاقي رواجاً اليوم، إنها لا ترقي لمستوي القارئ البسيط أو الشاب الواعد بالقراءة، أو حتي القارئ المخضرم!!.
لذلك أنا أقترح أن يُعاد ترجمتها، مع تسهيل لغتها، والإستعانة بألفاظ سهلة توصل نفس المعني، أو تُقربه قدر الإمكان، مع بقاء أحداثها كما هي، فروعتها تُكمن في أحداثها.