الأنا الأخرى في مسرحية “معرض الأرجل الخشبية”
بقلم- عبد الله الوصالي:
النفس البشرية شديدة التعقيد. والاعتقاد بالإلمام بكل أبعادها مجازفة لا يجب أن يدعيها أحد. فعلم النفس لم يزل في مرحلة وضع الخطوط العريضة لرسم خريطة النفس البشرية، هو في رأيي ربما في أول طريق المستحيل.
غير أن النفس البشرية من مكانها الاثير في عمق الذات تسرّب بعض أسرارها عبر منافذ عدة يعتبر الفن والابداع الأدبي أحد أهم تلك المنافذ.
في مهرجان مسرح الجامعات السعودية الأول الذي احتضنته جامعة جازان، كانت لي فرصة مقاربة مسرحية (معرض الأرجل الخشبية) نقديا عبر الندوات التطبيقية التي تعقب العرض على الخشبة.
أثناء العرض النهائي ودون سابق إنذار تبادر إلى ذهني وأنا أستمع للحوارات المتوترة بين الشخصيتين الرئيسيتين ملمحا نفسيا يمكننا أن نفهم من خلاله جزئية مهمة في تكنيك العرض المسرحي عبر تجلي إحدى مظاهر ما يسميه (علم النفس العصبي) بـ(الأنا الأخرى) the alter ego.
المسرحية موضوع الحديث من صنف الديودراما، تم تكييفها للمسرح عن قصة قصيرة، تتحدث عن فنان تشكيلي شاب اسمه فرحان كان يرصد مظاهر دمار الحرب لبلدته من مرسمه المطل على الشارع العام، ويوثق ذلك عبر لوحاته. طاردته اعين وأحاديث تجار الحروب، الذي يسعى من خلال لوحاته لفضحهم. ليجد نفسه يتأرجح بين قرارين البقاء في البلدة مع ما يحمله ذلك من مخاطر، أو الرحيل الذي تطالبه به حبيبته، لأن ذلك في زعمها، سينفع المدينة أكثر من بقائه. هل عليه الرحيل مع رسالته كفنان أو البقاء بجوار حبه (نوال) التي تحتاجه بعد أن بترت الحرب ساقها واستبدلت برجل خشبية ورفضها مرافقتها؟.
فرحان إذا شاهد على عصر الحروب ونتائجها الكارثية، مما يتيح لنا السؤال فيما إذا كان فرحان يستخدم السلاح الوحيد الذي يتقنه للانتقام فيمن تسببوا في إعطاب قدم حبيبته.
مثل كل الحروب العبثية أفرزت تلك الحرب تشوهات اجتماعية كثيرة يبرز العرض بعضها في حواراته الدرامية؛ مواكب هجرة، وفوضى، وانفراط عقد النظام، وتكاثر الجماعات العُنفية المتطرفة، واللايقين المصاحب لاختفاء البعض مثلما حدث لسعيد الذي شارك فرحان في حب نوال، والذي ثارت حول مصيره تكهنات عدة؛ هل تناثر جسده بعد التحاقه بإحدى الجماعات المتطرفة، أم أنه غرق في إحدى قوارب الموت العابرة للبحار، ففر “من الموت إلى الموت” كما قال فرحان الشخصية الرئيسة التي جسدها الفنان محمد آل محسن الذي للغرابة اختير في المهرجان للتنافس على أفضل ممثل مساعد، برغم أنه يمثل فرحان الشخصية التي تدور حولها الأحداث!
يختار المؤلف مكان المشهد الثابت محطة قطار، بكل ما يرمز له ذلك من مفترق طرق تستفز البطل، يعيش فرحان خلالها أتون صراع نفسي في اتخاذ قرار بالبقاء أو الرحيل. تتخلل صافرة القطار الأخير الموشك على المغادرة مناشدة فرحان لنوال بحرقة لمصاحبته، يمارس ذلك المؤثر الصوتي الموظف بمهارة ضغطا شعوريا شديدا على المشاهد، لا يكتفي العرض بذلك، بل يعمق الضغط النفسي على الجمهور بإبراز صوت شخصية مشاغبة مستفزة لحلم فرحان وحبيبته بالنجاة، وحين يسألها فرحان ضجرا وبنفاذ صبر:
– من أنت؟!
يجيب ضاحكا
أنا، هو أنت!
يتوزع ظهور الشخصية المشاغبة على فترات من زمن العرض. في إحدى فترات غيبتها يأخذنا العرض إلى مفارقة أخرى من تشوهات الحرب. دور تاجر حرب لكنه من النوع الذي أفرزته الحرب ذاتها، تاجر يتاجر في النحاس وجد في مظاريف الرصاصات الفارغة تجارة رائجة والمفارقة تكمن في أنه رأى في تلك التجارة السبيل المتاح لعلاج والدته التي أصيبت في نخاعها الشوكي برصاصة، أي يريد المزيد من الرصاص كي يعالج ما يحدثه الرصاص! إنها دائرة الحرب المفرغة وما تفرزه من مفارقات مأساوية.
عمد المخرج إلى صهر شخصيات العرض العديدة؛ فرحان، وتاجر النحاس، وتاجر التوابيت، وتاجر الأطراف الصناعية، ونوال، وسيدات الحي، في شخصيتين متجسدتين على الخشبة إيفاء بشرط الديودراما، ساعد على ذلك مهارة الشابين؛ كُميل، ومحمد اللذين تمتعا بمرونة جسدية وانسجام تام في تبادل الأدوار وكواليس اتسمت بالبساطة وبعدم التكلف فهي عبارة عن ستارتين من قامش أبيض على مشجبين متحركين يعمد البطلان بتغيير رتوش الأزياء المناسبة للشخصية المتقمصة خلفها بسرعة ملفتة ودون إبطاء.
من بين تلك الشخصيات يبرز لنا صاحب الصوت المشاغب الذي يدعي أنه فرحان عندما يسأله فرحان من أنت! فمن هو في الحقيقة؟ يمكن فهم ذلك في إطار ما أسلفنا ذكره، أي أنه الآنا الأخرى لفرحان.
تطلق الميتافيزيقا على بعض تجليات تلك الظاهرة النفسية تسميات عدة، وتسميها الأديان بالوسواس، أو النفس اللوامة. إن ظاهرة الانشطار النفسي التي نحن بصددها غير تلك المرضيّة مثل الفصام أو الذهان فهي مؤقتة تحدث عندما يكون المرء تحت ضغط نفسي لاتخاذ قرار حاسم أو على مفترق طرق في الحياة.
فتبرز خيارات ومخاوف عدة تتجاذب النفس في اتجاهات متضادة مما يؤدي لحالة من التمزق. لقد أدت الظروف المحيطة بفرحان، إلى صراع نفسي عميق أدى إلى انشطار ذاته بين المضي قدما في الرحيل أو البقاء. من هنا يصبح منطقيا أن الصوت المشاغب هو الأنا الأخرى المنشطرة عن فرحان!
أنا هو أنت!.
فالأداء الديودرامي للعرض الذي يتجلى في الحديث المتبادل بين فرحان والرجل الآخر الذي يتقمص بعض شخصيات العرض المتعددة لا يلبث أن يتحول مع هذيان الشخصية المشاغبة إلى مونودراما فالمتحدث هو فرحان في الصوتين؛ فرحان وذاته الأخرى! في تلك اللحظات يتحقق لنا أمر فريد، فبينما يبقى العرض أمام أعيننا، في وجود شخصيتين على الخشبة، محافظا على الشرط الديودرامي مظهرا؛ هو في مضمونه مونودراميا لأن كلا الصوتين صادران عن شخصية واحدة.