إبداعات

الإبيجراما و فضاء التلقى.. دراسة نقدية ل “قبس من جمر عبد اللطيف مبارك”

بقلم – فكرية غانم:

إنه عنوان موحٍ جداً ؛ ذلك الفضاء القبلى الذى يأخذ بالشاعر إلى إيحاءات مؤداها يتراقص بين الضوء في بسمة الروح وحب الصباح
و الاشتعال حين يقول :”في غيابك.. يأتي العيد ل..يشعل فالقب يتمي !!!”

الكاتبة فكرية غانم 

حتى يحل النور محلهما في موكبٍ لإبداعٍ يجيب عن تساؤلات ……….. لمن الاتساع ؟!! للإستفاضة ؟ أم للتكثيف ؟
ماذا بعد الحادثة ؟!!
إن اللغة الإشارية بين العنوان والمضمون النصي هي لغة قوامها التحقق عبرالأزمان.
ولو لم نقف على الخط الساحر الذى تقطر إبداعاً في هذا الديوان لابتلعنا العمق ، وجرفتنا الفضاءات الغامضة معه أينما حل .
إنه ….شاعر مبحثه الجمال ليس على مستوى الشكل فحسب؛ بل على مستوى المضمون أيضاً….لا سيما في دهشة الإبهار على مستوى السياق في لغة حاضرة . والمفارقة أننا عندما نتحدث عن اللغة ، فإننا نستشعر القـرب في حـمـيـمـيــة بلا غربة ولا غرابة
يفرغ الأشياء من ماهيتها العادية و يحيلها إلى كيانات elastic مرنة جميلة لا تنطق بالـثبات النمطي dogma . حيث التجديد ينبعث فى حنو دائم .

و إذا كانت القصائد قد وصلت إلى حد التجريد فى معظم تحليقها ، فلقد كان علىَّ أن أقف على لغة غير مراوغة تصوغ إجابة على رغبة الشاعر فى أن تكون لغته الشاعرة غير مسبوقة …ووجدتها في إبداعه الجديد.

وهنا تأتي أفكار الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا لتلقي بظلالها على إبداع الشاعر عبد اللطيف مبارك الذي اختار أن يكون ديوانه قبس من جمر في نثر يأخذنا لتساؤل دريدا : “هل المكتوب هو الحقيقي أو هو المسكوت عنه ؟” تاركاً لنا مساحات للدهشة ،التلاقي ، التعاطف ، الخوف …هي مفردات مسكوت عنها ننشئها نحن حال القراءة كإسقاط البعد الرابع عند بريخت أو يزيد .أجل لأنه يحدث أثراً .الأمر الذي ينقلنا إلى توصيف المنظرين لمفردات الإبداع حين يستخدمون كلمة ” الاستقبال ” والتى لا تعطى الأثر الذي يغنينا به عبد اللطيف مبارك في أعماله الإبداعية .

لذا تكون المفردة الجيدة التوصيف مع شاعر له صقله هي التلقي حيث يقول الله عز وجل : ” فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ”، مما يؤكد على أن التلقي فاعل وليس مستقبلاً فحسب .
وبوعيٍ تام تأتي المفردات الدالة لتواكب توصيف الناقد ، وإقرار الشاعر عن نفسه حين يستهل إحدى الكتابات بـ : ” مجدداً…”

والشيء الآخر هو النبر الصوتى
Morpheme – phoneme – stress – accent

إن الميزة الجوهرية تكمن فى المستوى الموسيقى من النص الشعرى ، فهل أتاح التحديث الموسيقى للشاعر أن يتخلص من القيود ؟
و هل نحن فى انتظار مزيد من كسر القيد ؟
ملتحماً مع دريدا يتمرد الشاعر على النمطية
إذ يمكن القول بأنّ التّفكيكيّة “هي محاولةٌ لهدم الأنطولوجيا الغربيّة بأسرها المبنيّة على ثنائيّاتٍ مثل الشّكل والمضمون، الإنسان والطّبيعة، المطلق والنّسبيّ، الثّابت والمتحوِّل”، وهي ثنائيّاتٌ تستند إلى مدلولٍ ثابتٍ متجاوز أو ما يسمّى “بالحضور”.
و الإبداع لدى البعض قد يأخذ شكلاً نمطياً على مستو ما يخص إنتاجهم.
أما شاعرنا اليوم في إصداراته المختلفة ….فإنك لا تجد له ديواناً يشبه الآخر. بالرغم من كونه شعراً مابين الفصحى والعامية ، وما بين العروضي والنثري منه …بمضامين تحويها إصدارات هي تنقلات الشاعر المرحلية مابين الدفق ،والمفتقد ، والعرفانية ، والعمق الفلسفي ذو الحكمة ، وبين ما نحن بصدده اليوم حيث المعنى العميق الذي يؤكد أنه دون احتراقٍ لا سنى .
ألا وهي :-
(أحاسيس وأصداء ، نوبة عطش ، قراية تانية للجسد، بتجرب تاني تموت، قبس من جمر ).
يقول إميل سيوران: “أربعون ألف سنة من لغة الإنسان، ولا يُمكنك أن تجد حرفًا واحدًا يصف الشّعور الّذي بداخلك تمامًا”.
يضعنا هذا القول، أمام الإشكاليّات اللّسانيّة الّتي تطرحها فلسفات “ما بعد الحداثة”، والّتي أعادت النّظر إلى مفهوم اللّغة وعلّة وجودها ومدى قدرتها على نقل صدق المشاعر وحقيقة الأفكار.
فهل نحن ضحايا وجود سابق أسميناه اللّغة ؟ هل تجاوزنا الميتافيزيقا وخطابها المتعالي؟
حمل هذا الديوان وبلا مبالغة عاتق الإجابة عن أسئلة كثيرة كهذه .حيث جاءت اللغة ماضية كالسيف . تكثيفها تنساب في بحوره البلاغة حيث أن قصديتها تدهش المتلقي ..بعيداً عن الموروث العربي الذي يؤكد على أن أجمل الشعر أكذبه.

إن فكرة عدم التحقق هى تلك الفكرة المروعة ،
لذا قرر الشاعر / عبد اللطيف مبارك أن يتحقق فى الكيان الأكثر اتساعاً الأكثر ألقاً حيث نجد أن حسية اللون أعرض من حسية الكلمة ، و الذى صرح به العنوان الأكثر سخونة ؛” قبسٌ من جمر “و هذا ما جادت به نصوص الديوان فى تنغيمها و وحركتها الثورية على مستوى التصريح .
و الحق أن الشاعر لم يفاجئنى باستحضار تجارب حسية، ولكن ما فاجأني أنها على مستوى عالٍ من التجريد بالكلمات و السياقات يصل إلى حدٍ سريالى بل و أنه أيضاً يتماوج بين المدارس الكتابية المختلفة ولكن في نسقٍ مجدد تحدوه لغة رشيقة ، تتنقل كنحلة تنقل لقاحاً بين مشاعر بيضاء وأخرى حمراء مذيبةً ما يكبلها من جمودٍ موروث .
و بغاية شاعرٍ حصيف يأتينا بعسل الدهشةٍ الطازجة في مقابلات بين مفردات وبين سياقات كــ : الحلو والمر …. والحياة واليتم فعلى المستوى الرؤيوى إذ يبدو التحدى فى التصدى للغة و محدوديتها بمحاولة الهيمنة التى بدت فى كل الاستعانات التى رصعت الكتابة بجمال الغوص إلى عمق الأصالة اللغوية والمعرفية لدى الكاتب .
غير أنه لا شك فى أن ثمة فرق بين التمثيل الحسى فى الفن ، و بين الوعى الحسى الذى هو مرحلة من مراحل الوعى البشرى . فالاتكاء على رموز ذات طبيعة حسية كالمرأة مثلاً …. هو ذلك الممثل الروحانى للتصوف الذى تبدى فى أماكن عدة كأن يقول مثلاً :
” لا أفتقد منكِ سواي “بمرجعية الاتحاد أوالحلول ، أو بأساس المنشأ الوجودي للبشرية .

” أيتها النقية ..آثار عطركِ وطعم قبلةشهيتي البقية ”
وهو يتحدث عن اللغة الجديدة فهو ربما و هو يشير إلى لغة الجسد ، بعدسة تتسع رؤيتها لتشمل الأجساد و الأصوات فهى إذن الثورة ، مما يفض الإشكالية بين الحس المباشر المتمثل فى مفردة بعينها و بين السياق الذى يفيض تلميحاً . كما يحدث فى معظم الصياغات.
و فى دائرة الوجود بكل معطياته يفعمنا الشاعر

بمختلف الأساليب سواءً كان ذلك على مستوى الصياغة أو على المستوى النسقى الذى يمد جذوره ماراً بالمدارس المختلفة فعلى سبيل المثال حين يقول: يتشح إبداعه بملمح رومانسي ، وجنون ثوري فيتخلى عن الشكل النثري المعروف حيث يتضح هنا الوجود العروضي الموسيقي .والحق يقال أن الموسيقى لدى شاعرنا هي ضيف كل المواسم تحتضن الركض خلف ألوان الوجود متناغمة مع روح تأبى إلا أن تتحقق ولا يخلُ الديوان من المعانى الوجودية:
“ما بيننا جثة الوقت نهملها”
” اطمئن وجعي .. منذ الآن سأشعر بك !!! ”
يتبدى الانحناء الشكلانى …. الذى يعكس الحميمية ،أو ربما يلمح للفقد .
و بالرغم من هذا فشاعرنا لا يشيه ألبير كامى ، و لا كافكا …. إنه صوتٌ مختلف يفيض بمعانى الإنسانية المتشحة بالجمال ، والحب فيها علوٌ لمقام المبدع .
الأولى تمزجك مع طين الحياة الذى يحتضن دماء الوجود و الثانية دعوة للتأمل .
………………………………………………
وكإبحار حول نشأة الإبيجراما فهى ليست وليدة الحداثة أو ما بعدها لكن إرهاصاتها بدأت عند الشاعر الانجليزي وليم بليك
” William Blake (1757 – 1827) ”
وأقدر حيرة د. محمد النويهى حين يتساءل : أهي مثاقفة مع الغرب أم معايشة للمعاصرة ؟ فيقول : “كلما نضج الإنسان و ارتقت ثقافته و نما ذوقه و تهذب حسه ؛ صار أميل إلى الألوان الخافتة، و الروائح الخفيفة التى لا تشم إلا هوناً، و الأنغام الدقيقة المتخفية التى تحتاج إلى ذكاء و إرهاف سمع حتى تلتقط و تتابع”.

و لا شك أن  عبد اللطيف مبارك” مبدع قارئ و مثقف واع يعنى ويدقق بهدف التجديد الحقيقي ، وكذلك التجريد . و هذا هو الجميل على مستوى السياق .
و للأسف، لا يمكن أن يدرس هذا فى المؤسسات التعليمية ؛ لأن استشعاره يلزمه عقل نقدى يعرف ما هو التجريد .

الشاعر عبد اللطيف مبارك

إن محاولات الشاعر المتكررة للتحقق من خلال لغة حاضرة ، و مموسقة موسيقية ، و مجازية ترسل انبعاثاتها برؤيوية جديدة … هي دعوى للجنون الذى هو مرادف الإبداع .إنه بحث فى الموجود بمنتهى العمق للوصول إلى الـ ما وراء .
وهنا يتضح لنا الاتقاد .
وما كان أجمل من هيمنة بعض المفردات على نصوص فاضت فيها رقة، و عذوبة ، و موسيقية كمثل (أتحسس قلبي ، اشعر بكِ ، و كذلك الحلم حيث ظلت الإيقاعات الموسيقية تنفتح رويداً رويداً من مجرد نبر موضعى إلى آفاق كلية كما لو كنت أستحضر سيبويه قائلاً:” “النبر هو تفاوت شدة النطق بالصوت الواحد “.

حيث لعب النسق الموسيقى دوراً هاماً فى التصدى للقولبة فجاء نظام النبر فى هذا الديوان ما بين تأصيل و تجديد ، مرجعيته ثورة على تحكيم الشكل فى الشعر و لا نعنى هنا الموسيقى الجزئية ؛ بل الاتساع الإيقاعي بتجاوز النظام الكمى إلى النظام النبرى .
ولا سيما النبر الانفعالى وهو ضغط على جزء من الكلمة يصاحب انفعالات المتكلم و تعبيراته خارج نظام القولبة .

والرائع فى الديوان لدى شاعرٌ كتابته هو….. أن قبس الجمر الذي أشار إلى مصطرعاتٍ ،وأمنياتٍ وإلى جماليات الواقع المُحَس قد ألهب المسافات اتقاداً حتى قادنا إلى همسات النور الذي يرادف وجود شاعرٍ جميل لم تنل من روحه الرتابة .وهو حين يحيل المعانى المألوفة إلى معانٍ جديدة ينبت زهراً يفاجئ القارئ بمنتهى الرومانسية التي تفيض بالحس الجمالي، والاتساق الكوني ناشرة عطرها إلى أرواح تتندى بها.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى