مقالات

كواليس

تقنع نفسك مليًا بالعودة إلى تدوين يومياتك، كي ترصد مشاعرك الهوجاء، وتحاول أن ترى هذا الكائن الذي تتلبسه بعدسة مكبرة من الأعلى وليس من خلال النظرة الأفقية التي لا تعرف الفكاك منها، ولكن حين تستجمع كل قواك وعزائمك كي تشرع في العمل، تلطمك يد الرهبة، ويساورك سؤالٌ مرعب: ماذا لو تسربت هذه اليوميات؟! صحيح أن أسرارنا ليست على ذلك القدر من التأثير، ولن تبلغ فضائحية إبستين، ولن تغير حجرًا عن حجر، ولكننا مخلوقات كتومة، لا نحب أن يمس أحدٌ قشورنا الخارجية.

بعد دقائق تستمرئ الفكرة، ولكن يدهمك الشعور بالجوع، فأنت في ساعات الصباح الأولى، ولا بد من تناول الطعام، ولا خيرَ في عمل على بطن فارغ. ذهنيًا، تحتاج إلى ساعة ونصف الساعة للوصول للمطعم عبر الشوارع المزدحمة، ثم إحضار الفطور بواسطة النادل الذي سوف يتلكأ بالتأكيد لأنك رجل عملي ومتقشف لا تمنح البقشيش وتستنزف الكثير من مناديل المطعم، ثم يعقبها عشرون دقيقة لمضغ الطعام ولوكه على جانب من أشداقك وأنت مغمض العينين كجمل هَرِم، لأنك فقدت معظم أضراسك.

الفطور أولًا ولتذهب الكتابة إلى الجحيم. وفجأة تتعالى طرقات على باب شقتك، تشرع الباب فإذا بأخيك الهارب من عمله واقف وبيده لفائف كبدة رائحتها تشق الرأس، يحك كرشه، ويهمس: “خُذ تفتمن!”

تقلصَ زمنُ تناول الوجبة إلى عشرين دقيقة وباقي الكثير من الوقت حتى تتأهب لعملك المسائي، إذن لا فرار من الكتابة. تنفض الغبار عن شاشة حاسوبك وتسعل خلف يدك، تحاول إيجاد جملة افتتاحية تدشن بها صفحة المذكرات، تعتصر مخك وتمرر أحداث الأمس أمام عينيك كصور تعرض على سيور تتحرك ببطء.

تنتقي موقفَ عراكك مع الحلاق ليلة أمس، فإن كان قد سحقك بين قصاصات الشعر المتناثرة، وكسّر على ظهرك يد المكنسة، فلسوف توسعه لكمًا وجلدًا فوق هذه الورقة.. تنكمش ملامحك وتنزل كلماتك مجلجلة كالرعد، مجازك وتشبيهاتك ومحسناتك البديعية كلها على قدر كبير من الصرامة والقسوة والقوة، مع كل سطر تكتبه، تتكور قبضتك ويتساقط العرق من جبينك.

والعجيب أنك لم تكتفِ بالانتصار على الحلاق فحسب، بل وصلت بطولاتك إلى سحق القصّاب والخبّاز ومُنجّد الكنبات الذي سرقت دراجته وأتلفتها في حادث خرجت منه بيد مكسورة، حتى مؤذن الحي الذي لا يعجبك صوته شرعت تستهدفه في هجومك الورقي.

والآن تحاول إيجاد مدخل جديد لجانبك العاطفي في المذكرات، ولكنك مازلت تلهث وأعصابك مشدودة من النزالات والمشاجرات الافتراضية العنيفة. تغمغم: لا بد من كوب قهوة فرنسية بالبندق الحلو لترطيب مشاعرك قليلًا.

تتناول الكوب الأخضر عن شمالك وبقعره بقايا قهوة متجمدة على ذباب ميت، ومن الدرج تستل مظروف قهوة سريعة التحضير، لا تستطيع الانحناء من تحت كبل الحاسوب الموصول بالقابس الكهربائي؛ نظرًا لبركات الحلّاق ليلة أمس، ترفع حاشية جلبابك من أسفل وتتوفز للقفز من فوق السلك، تقفز كضفدع رشيق، ولكن إبهام قدمك الطويل الذي يثقب الجوارب يعلق بطرف السلك، فتسقط على بطنك منبطحًا في ضربة مكتومة ويتشظى فخار الكوب أمامك، ويسقط الحاسوب على رأسك، باصقًا لوحة مفاتيحه التي سهرت على تثبيتها ليلةً كاملة بالغراءِ وهواءِ الاستشوار الساخن.

دون أن تلتفت تغادر الشقة وأنت تعرج على سلم العمارة، تقتحم شقة والديك بالطابق السفلي وتسحب أخاك النائم من فراشه إلى الخارج، يقر عزمك، وأنت خلف المقود وأخوك يتفقد هاتفه، على أن تقصد ذاك المطعم البعيد، وأن تستنزف مناديله وتسرق بعضها في جيوبك، وبالأخص أن تقهر ذلك النادل وأن تقيمه وتقعده مئة مرة دون أن ينال منك ربع هللة.
نايف مهدي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى