إبداعات

جبل الرمل

بقلم- دكتور صالح الشحري:

نجحت رندا شعث في انجاز عمل ادبى متفوق ،سواء اعتبرته رواية او اعتبرته سيرة ذاتية، كتاب تزين الصور كلماته ،او تشرح الكلمات صورة، ايهما تختار كقارئ فانت على حق.

 رندا شعث التى تعرف نفسها بانها برجوازية ذات تطلعات بروليتارية، المصورة الصحفية، ابنة السياسى الفلسطينى، تحمل الجنسية المصرية، و بحكم المولد حاصلة على الجنسية الأمريكية، غارقة حتى نخاع النخاع في هموم المواطن المصري، و في العمل الفلسطيني.

اختارت عنوانا لسيرتها “جبل الرمل”، الجبل الصغير في طرف حديقة جدها لأمها المصري، حديقة بيت المندرة في الاسكندرية، التي تقضي فيها ايام طفولتها السعيدة مع جدتها فاطمة التى عاشت حتى تجاوزت التسعين، عاشت حتى رأت حديقة البيت و قد احتلها بلطجي، و احاطت بالبيت العمارات القبيحة تمنع هواء البحر، و انكرت بيتها قبل ان تلاقى ربها.

ثم يجتمع الابناء و الاحفاد ليبيعوا البيت و الحديقة و ربما الذكريات ،جبل الرمل ليس كجبل الصخر ، ذاك تفنيه الريح ، و هذا يسند الأرض.

كذلك هي معظم حيوات المحيطين برندا مثل جبل الرمل ليس راسخا بما يكفي للبقاء ،كل يوم يخط عليه الزمن خطوطا جديدة.

لا تتوقف رندا كثيرا عند احداث الموت و الطلاق ،و الانتقال و الاعتقال، الحياة تجري و هي تخط كل يوم على صفحة العمر خطوطا و رسوما جديدة، جدها على مات بعد اشهر من وصول حفيده علي و كأنما اسلمه الراية، امها المصرية مصممة قصص الاطفال، عملت مسئولة عن مراسلات عرفات قبل عودتها الى مصر ماتت بحادث في عامها السادس و الاربعين، انتظرت العائلة ابنتها رندا لتنتهي من دراستها في امريكا و تعود لتقوم بدور الأم لأخويها، اخوها على يرتبط بابنة الفنان المصري سعد كامل.

ما كان اجمل المناسبات التى تقضيها الاسرتان سويا، ثم جاء الانفصال و توفي علي، رندا القلقة ذات التطلعات البرجوازية لا تعبأ بزواج مرتب، تزوج اخواها الأصغر منها، بلغت الرابعة و الثلاثين لتتزوج من الأمريكى توم الذي اسلم قبل ان يصارحها برغبته في الارتباط بها، توم مصري جدا، تزوجا، قضيا عشرين عاما لم نلحظ اي مشكلة في علاقتهما بالعكس احسسنا بجمال حياتهما، لكنهما يتفقان علي الطلاق وكأنه قدر محتوم.

عند ذهابهما لتنفيذ الطلاق بشكل حضاري، تطول الإجراءات يتوتر توم، تحتضنه و تهدهده حتى تكتمل خطوات الطلاق الرسمي، مع الوقت تنهي عملها وتجلس في البيت تستعيد دور عماتها و جداتها مع ابناء اخويها، لا وقت للحزن على ما فات، مع الثوار تكون في المقدمة، و مع المكسورين تمضي حتى النهاية، عربية في كل مكان، جزائرية في الجزائر، مصرية في مصر و فلسطينية في كل حين، في عملها تعالج الأمية البصرية بعدستها.

صور تحكى رغم انها تخلو من الالوان، تماما كحياة ابناء مخيم رفح وكحياة سكان السطوح في القاهرة كلها حياة بالابيض و الاسود، البهجة نادرة، تصور رنا سطوح عمارات الحي الراقي، تكتشف ان حياة نساء السطوح ليست كحياة هوانم الشقق، هنا يعشش الفقر مستظلا بالسماء و تحته غني و رفاه، رندا تكتشف تناقضات حياتنا ببراعة شديدة، تعبر عن كل ذلك بحيادية مفعمة بالمشاعر التى تنفجر بعد أن تتخلل مسام عقل القارئ و قلبه.

المكان حاضر دائما، شوارع و معالم جاردن ستى، معالم بيتها في بيروت ،و بيت جاردن سيتي الصغير وبيت جاردن ستى الكبير و بيتا شارع وابور الماء والمندرة قي الاسكندرية، كلها ترتسم في وجدان القارئ لتجري عليها الأحداث كما يجري القطار علي خطوط السكة الحديدية، و كما يجري الترام القديم في شارع القصر العينى ملاحقا اعمدة سقفه التى تصله بالتيار الكهربائي.

انجزت رندا عملا اخر مدهشا عصيا على التصنيف يسكن وجدان القارئ بسهولة و يستقر هناك الى الأبد.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى